فشل بايدن في السودان- هل يصحح ترامب المسار؟

في أواخر شهر يوليو من عام 2024، قام المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، توم بيريلو، بإبلاغ الحكومة السودانية بنيته زيارة البلاد في الثامن من شهر أغسطس من العام نفسه. كان من المقرر أن يرافقه في هذه الزيارة الهامة مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، السفيرة سامانثا باور. كان الهدف الأساسي من وراء هذه الزيارة هو مناقشة وتباحث السبل الكفيلة بإنجاح المبادرة الأمريكية الرامية إلى إنهاء الحرب الدائرة في السودان من خلال مفاوضات جنيف، التي كان من المقرر انطلاقها في الرابع عشر من الشهر ذاته.
إلا أن بيريلو وضع شرطًا أثار الاستغراب لإتمام هذه الزيارة المرتقبة، وهو إجراء المباحثات مع الجانب السوداني في مطار بورتسودان، على أن تجري هذه المباحثات تحت حراسة مشددة من قبل فريق حراسة أمريكي خاص. برر بيريلو هذا الشرط المثير للجدل بعدم استقرار الأوضاع الأمنية في البلاد، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض القاطع من قبل الحكومة السودانية، مما أدى في نهاية المطاف إلى إلغاء الزيارة برمتها.
ومع ذلك، وبعد مرور ما يقارب أربعة أشهر على إلغاء تلك الزيارة المثيرة للجدل، عاد المبعوث الأمريكي من جديد وطلب السماح له بزيارة السودان. هذه المرة، وافقت الحكومة السودانية على طلبه دون قيد أو شرط، وهو ما يُعتبر إقرارًا ضمنيًا بشرعية الحكومة السودانية، كما أنه يعكس تحسنًا في الأوضاع الأمنية في البلاد، حيث لم يعد هناك ما يدعو للخوف والقلق.
وقد تمت الزيارة بالفعل يوم الاثنين الماضي، حيث التقى بيريلو برئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في مكتبه بالعاصمة المؤقتة بورتسودان. كما التقى أيضًا بنائب رئيس مجلس السيادة، الفريق مالك عقار، وأجرى مباحثات معمقة مع وزير الخارجية السوداني، علي يوسف. بالإضافة إلى ذلك، التقى بيريلو بالسلطان بحر الدين سلطان، وهو زعيم قبيلة دار مساليت، وهي إحدى الإثنيات التي تقطن إقليم دارفور ذات الأصول الأفريقية، وتعتبر مدينة الجنينة، الواقعة في أقصى غرب الإقليم والمتاخمة للحدود السودانية مع دولة تشاد، حاضرتهم.
وقد تعرضت هذه الإثنية لعمليات إبادة جماعية مروعة على أساس عرقي، بالإضافة إلى عمليات تهجير قسري واغتصاب للنساء، كما تم دفن المئات منهم وهم أحياء على أيدي قوات الدعم السريع التي تسيطر على المدينة منذ اندلاع الحرب وحتى الآن. كانت هذه المقابلة بمثابة مواساة بسيطة وإظهار للأسى والأسف بعد فوات الأوان.
ووفقًا لتصريحات السفير محمد عبد الله إدريس، سفير السودان لدى واشنطن، فإن مباحثات المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان "تطرقت إلى خارطة طريق واضحة المعالم لإنهاء الحرب، وكيفية إيصال المساعدات الإنسانية الضرورية للمحتاجين، ورتق النسيج الاجتماعي المتصدع، بالإضافة إلى العملية السياسية الشاملة كمخرج نهائي لما بعد الحرب".
ويصف العديد من المراقبين والمحللين للشأن السوداني زيارة بيريلو الأخيرة هذه بأنها زيارة "علاقات عامة" تهدف إلى تحسين الصورة، وتأتي في سياق المراجعة النهائية للملفات المعلقة في مكتب الرئيس بايدن قبل مغادرته البيت الأبيض بلا رجعة.
يبدو أن إدارة بايدن والحزب الديمقراطي يسعيان إلى ترك بصمة إيجابية تُذكر لهما في ملف السودان، الذي لم يتعاملا معه بجدية كافية في السابق. لقد سايرت الإدارة الأمريكية قوى إقليمية صغيرة حديثة النشأة كانت هي السبب الرئيسي في تأجيج الأزمة من خلال تقديم الدعم المالي واللوجستي والعسكري والإعلامي لقوات الدعم السريع. لم تتعامل الإدارة الأمريكية مع هذا الملف بصفتها قوة عظمى يجب أن تنظر إلى ساحة السياسة الدولية بمنظار شامل يجعل من حفظ الأمن والسلم الدوليين قيمة عليا وهدفًا ساميًا تسعى إلى تحقيقه انطلاقًا من امتلاكها جميع الموارد والإمكانيات اللازمة والضرورية لتحقيق ذلك.
كان بمقدور إدارة بايدن أن تدير ملف الأزمة في السودان بصورة أكثر نجاعة ومهنية، مما كان من شأنه أن يفضي إلى حل مُرضٍ يكون نموذجًا يُحتذى به إقليميًا على الأقل. لكنها اختارت أن تسجل هدفًا عكسيًا في مرماها في اللحظات الأخيرة، بينما كانت تحاول تشتيت الكرة بعيدًا عنه. فقد صرّح بيريلو في لقائه بوزير الخارجية السوداني بأنه لا يرى مستقبلًا سياسيًا أو عسكريًا لقوات الدعم السريع في السودان.
فهل اكتشفت إدارة بايدن فجأة، وهي تلملم أوراقها ومتاعها استعدادًا لمغادرة البيت الأبيض، وبعد مرور تسعة عشر شهرًا على اندلاع الحرب في السودان وما صاحبها من فظائع وانتهاكات جسيمة ومجازر مروعة ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق المدنيين الأبرياء، أن هذه المجموعة المسلحة لا تصلح لأي دور سياسي أو عسكري في مستقبل السودان؟!
ألم تكن إدارة بايدن، بما لديها من قوة كبيرة ومن مؤسسات استشارية متخصصة وأدوات استشعار مبكر وما تملكه من وسائل صنع القرار ومراكز الفكر التي ترفدها بالمعلومات الموثقة، قادرة على الوصول إلى حقيقة أنه لا مستقبل لقوات الدعم السريع في السودان، وبالتالي عدم إلقاء بثقلها خلف "الاتفاق الإطاري" الذي كان السبب الرئيسي في إشعال نار الحرب؟!
ألم تكن إدارة بايدن، عشية الخامس عشر من أبريل/ نيسان عام 2023، تدرك تمام الإدراك أن العواقب ستكون وخيمة، وهي تبارك خطة قوات الدعم السريع وجناحها السياسي (قوى الحرية والتغيير) للاستيلاء على السلطة بالقوة في صبيحة اليوم التالي؟!
هل يمكن لأحد أن يصدق أن الدولة العظمى (الوحيدة) كانت ترى الأمور من نفس الزاوية الضيقة التي كانت تنظر منها قوات الدعم السريع وجناحها السياسي المهيض "قحت/تقدم"، على أن الأمر مجرد نزهة قصيرة، وأن العملية لن تستغرق سوى ساعة من نهار؟ أم أنها كانت تدرك فداحة العواقب، وأنها مغامرة غير محسوبة، لكنها أرادت ذلك رعايةً لمصالح بعض صغار أصدقائها الإقليميين، فأعطت الضوء الأخضر لتنفيذها إرضاءً لهم؟
لا يمكن لأحد أن يجزم على وجه اليقين بحقيقة المقاصد والأهداف التي دفعت إدارة بايدن إلى الانسياق وراء أحلام وأوهام مجموعة مسلحة همجية، وأحلام مجموعة من المغرّر بهم الذين دخلوا معترك السياسة بلا دراية ولا خبرة ولا رؤية، يظنون واهمين أن الديمقراطية يمكن أن تُجلب عبر صناديق الذخيرة، لا عن طريق صناديق الاقتراع.
تقف خلفهم قوى إقليمية تعاني من متلازمة تضخم الذات ومصابة بجنون العظمة، وتؤمن بأن المال يمكن أن يحول المستحيل إلى واقع ملموس، والحلم إلى حقيقة، وأن البندقية هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على المصالح، وأن علاقات التعاون البناء وحسن الجوار الكريم واحترام سيادة الدول ما هي إلا أساطير الأولين التي سطرتها الأمم المتحدة لا تُسمن ولا تغني من جوع.
لقد أضاعت إدارة بايدن فرصة ذهبية ظلت سانحة ومتاحة لها على مدار أشهر الحرب في السودان، وهي قيادة دفة الأزمة للخروج بها بسلام إلى بر الأمان دون تكبد خسائر فادحة، وبالتالي تسجيل هذا الإنجاز في سجلها، وأنها حقنت دماء الأبرياء وجنبت الشعب السوداني تلك المجازر المروعة والتشريد والتهجير والنزوح واللجوء، وفوق ذلك السخط عليها وتحميلها جزءًا كبيرًا من المسؤولية جنبًا إلى جنب مع مليشيا الدعم السريع.
لكنها اختارت عن سابق إصرار وترصد أن تكون (مجرورة) بعربة المليشيا وجناحها السياسي، فكان حصادها الفشل الذريع. إنها حقًا العربة التي قادت الأحصنة!
ورغم أنه من السابق لأوانه تحديد الاتجاه الذي سيسلكه الرئيس المنتخب دونالد ترامب بشأن الملف السوداني بعد تنصيبه رسميًا رئيسًا للولايات المتحدة في شهر يناير/كانون الثاني من العام القادم، فإنه يمكن القول بشكل عام إنه لن يسير على نفس الدرب الخاطئ الذي سلكه سلفه، والذي أفضى به إلى الفشل المحتوم.
والراجح أن إدارة ترامب القادمة ستسلك طريقًا آخر أقل كلفة وأقصر مسافة، وذلك لعدة أسباب جوهرية؛ أهمها أن الجمهوريين عُرف عنهم اتباع النهج البراغماتي في السياسة الخارجية وليس النهج الأيديولوجي. فالأول واقعي وملموس، أما الثاني فقد يلامس الخيال في الكثير من الأحيان.
كذلك فإن علاقة الرئيس ترامب بروسيا جيدة ومستقرة، والسودان يحتفظ بعلاقات ممتازة مع روسيا، وكان آخر شواهدها بالأمس القريب، حيث استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لصالح السودان ضد المشروع البريطاني الذي يدعو إلى "وقف فوري للأعمال العدائية في السودان وحماية المدنيين الأبرياء".
وهو مشروع ترفضه الحكومة السودانية بشدة وترى أنه مفخخ ويفتح الباب واسعًا لتدخل قوات أممية في الشأن السوداني، مما يعد انتقاصًا صارخًا من سيادة الدولة وشرعية الحكومة المنتخبة، وإعادة مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي إلى المشهد السياسي مرة أخرى.
وقد لقي الفيتو الروسي ترحيبًا حارًا من قبل الحكومة السودانية والرأي العام السوداني. لذلك فإن تعاطي إدارة ترامب مع الملف السوداني سيكون بتفاهم ناعم ومحسوب مع روسيا، تمامًا كما هو الحال في الملفات الأخرى التي تتضمن تقاطعات أمريكية روسية.